فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} استئناف جاء عقب الوعيد كالنّتيجة والفذلكة، لأنّ الله لما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم {قل انتظروا إنا منتظرون} [الأنعام: 158] أعقب ذلك بأنّ الفريقين متباينان مُتجافيان في مدّة الانتظار.
وجيء بالموصوليّة لتعريف المسند إليه لإفادة تحقّق معنى الصّلة فيهم، لأنَّها تناسب التّنفير من الاتّصال بهم، لأنّ شأن الدّين أن يكون عقيدة واحدة وأعمالًا واحدة، والتّفرّق في أصوله ينافي وحدته، ولذلك لم يزل علماء الإسلام يبْذلون وسعهم لاستنباط مراد الله من الأمّة، ويعلمون أنّ الحقّ واحدٌ وأنّ الله كلّف العلماء بإصابته وجعل للمصيب أجرين ولمن أخطأه مع استفراغ الوسع أجرًا واحدًا، وذلك أجر على بذل الوسع في طلبه فإنّ بذل الوسع في ذلك يوشك أن يُبلِّغ المقصود.
فالمراد بـ {الذين فرّقوا دينهم} قال ابن عبّاس: هم المشركون، لأنَّهم لم يَتّفقوا على صورة واحدة في الدين، فقد عبدت القبائل أصنامًا مختلفة، وكان بعض العرب يعبدون الملائكة، وبعضهم يعبد الشّمس، وبعضهم يعبد القمر، وكانوا يجعلون لكلّ صنم عبادة تخالف عبادة غيره.
ويجوز أن يراد: أنَّهم كانوا على الحنيفيّة، وهي دين التّوحيد لجميعهم، ففرّقوا وجعلوا آلهة عباداتها مختلفة الصّور.
وأمّا كونهم كانوا شيعًا فلأنّ كلّ قبيلة كانت تنتصر لصنمها، وتزعم أنّه ينصرهم على عُبَّاد غيره كما قال ضِرار بن الخطّاب الفهري:
وفَرّت ثقيفٌ إلى لاتها ** بمنقلَب الخائب الخاسر

ومعنى: {لست منهم في شيء} أنّك لا صلة بينك وبينهم.
فحرف (مِن) اتّصالية.
وأصلها (من) الابتدائيّة.
و{شيء} اسم جنس بمعنى موجود فنفيه يفيد نفي جميع ما يوجد من الاتّصال، وتقدّم عند قوله تعالى: {ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء} في سورة آل عمران (28)، وقوله: {لستم على شيء} في سورة المائدة (68).
ولمّا دلّت على التبرّي منهم وعدم مخالطتهم، كان الكلام مثار سؤال سائل يقول: أعلى الرّسول أن يتولّى جَزاءهم على سُوء عملهم، فلذلك جاء الاستئناف بقوله: {إنما أمرهم إلى الله} فهو استئناف بياني، وصيغة القصر لقلب اعتقاد السائل المتردّد، أي إنَّما أمرهم إلى الله لا إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى غيره، وهذا إنذار شديد، والمراد بأمرهم: عملهم الذي استحقوا به الجزاء والعقوبة.
و(إلى) مستعمل في الانتهاء المجازي: شبّه أمرهم بالضالّة التي تركها النّاس فسارت حتّى انتهت إلى مراحها، فإنّ الخلق كلّهم عبيد الله وإليه يرجعون، والله يمهلهم ثمّ يأخذهم بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين حين يأذن لرسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم كما قال تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ربَّنا اكشف عنا العذاب إنَّا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلَّم مجنون إنَّا كاشفوا العذاب قليلًا إنّكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} [الدخان: 10، 16].
والبطشة الكبرى هي بطشة يوم بدر.
وقوله: {ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} {ثمّ} فيه للتّرتيب الرُّتبي مع إفادة المهلة، أي يبقى أمرهم إلى الله مدّة.
وذلك هو الإمهال والإملاء لهم، ثمّ يعاقبهم، فأطلق الإنباء على العقاب، لأنَّه إن كان العقاب عقاب الآخرة فهو يتقدّمه الحساب، وفيه إنباء الجاني بجنايته وبأنَّه مأخوذ بها، فإطلاق الإنباء عليه حقيقة مراد معها لازمه على وجه الكناية، وإن كان العقاب عقاب الدّنيا فإطلاق الإنباء عليه مجاز، لأنّه إذا نزل بهم العذاب بعد الوعيد عَلموا أنَّه العقاب الموعود به، فكَانَ حصول ذلك العلم لهم عند وقوعه شَبيهًا بحصول العلم الحاصل عن الإخبار فأطلق عليه الإنباء، فيكون قوله: {ينبئهم} بمعنى يعاقبهم بما كانوا يفعلون.
ووصف المشركين بأنَّهم فَرّقوا دينهم وكانوا شيعًا: يؤذن بأنَّه وصف شنيع، إذ ما وصفهم الله به إلاّ في سياق الذم، فيؤذن ذلك بأنّ الله يحذّر المسلمين من أن يكونوا في دينهم كما كان المشركون في دينهم، ولذلك قال تعالى: {شَرَع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك إلى قوله أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13].
وتفريق دين الإسلام هو تفريق أصوله بعد اجتماعها، كما فعل بعض العرب من منعهم الزّكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة.
وأمّا تفريق الآراء في التّعليلات والتَّبيينات فلا بأس به، وهو من النّظر في الدّين: مثل الاختلاف في أدلّة الصّفات، وفي تحقيق معانيها، مع الاتّفاق على إثباتها.
وكذلك تفريق الفُروع: كتفريق فروع الفقه بالخلاف بين الفقهاء، مع الإتّفاق على صفة العمل وعلى ما به صحة الأعمال وفسادها.
كالاختلاف في حقيقة الفرض والواجب.
والحاصلُ أنّ كلّ تفريق لا يُكفِّر به بعض الفرق بعضًا، ولا يفضي إلى تقاتل وفتن، فهو تفريق نظر واستدلال وتطلّب للحقّ بقدر الطّاقة وكلّ تفريق يفضي بأصحابه إلى تكفير بعضهم بعضًا، ومقاتلة بعضهم بعضًا في أمر الدّين، فهو ممّا حذّر الله منه، وأمّا ما كان بين المسلمين نزاعًا على المُلك والدّنيا فليس تفريقًا في الدّين، ولكنّه من الأحوال التي لا تسلم منها الجماعات.
وقرأه الجمهور: {فَرّقوا} بتشديد الراء وقرأه حمزة، والكسائي: {فَارَقوا} بألف بعد الفاء أي تركوا دينهم، أي تركوا ما كان دينًا لهم، أي لجميع العرب، وهو الحنيفية فنبذوها وجعلوها عدّة نحل.
ومآل القراءتين واحد. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)}
اتفقوا بأبدانهم وافترقوا بقلوبهم، فكانوا مجتمعين جهرًا بجهر؛ متفرقين- في التحقيق- سِرًّا بِسِرٍّ.
قوله: {لَّسْتَ مِنْهُمْ في شَئٍ}. لا يجمعك وإياهم، يعني شِقُّكَ شقُّ الحقائق، وشِقُّهم شِقُّ الباطل، ولا اجتماع للضدين. اهـ.

.فائدة لأبي حامد الغزالي:

ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه التفرقة بين الإيمان والزندقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة، كلهم في الجنة إلا الزنادقة، وهي فرقة». هذا لفظ الحديث في بعض الروايات. قال: وظاهر الحديث يدل على أنه أراد الزنادقة من أمته، إذ قال: ستفترق أمتي، ومن لم يعترف بنبوته فليس من أمته، والذين ينكرون أصل المعاد والصانع، فليسوا معترفين بنبوته، إذ يزعمون أن الموت عدم محض، وأن العالم لم يزل كذلك موجودا بنفسه من غير صانع، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وينسبون الأنبياء إلى التلبيس، فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة. انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الإسكندرية: أما هذا الحديث فلا أصل له، بل هو موضوع كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، ولم يروه أحد من أهل الحديث المعروفين بهذا اللفظ، بل الحديث الذي في كتب السنن والمسانيد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار». وروي عنه أنه قال: «هي الجماعة». وفي حديث آخر: «هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي». وضعفه ابن حزم، لكن رواه الحاكم في صحيحه، وقد رواه أبو داود والترمذي، وغيرهم قال: وأيضا لفظ الزندقة لا يوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يوجد في القرآن، وأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في توبته قبولا وردا، فالمراد به عندهم المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر. انتهى. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ}
كَانَتِ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ حُجَجِ اللهِ الْأَدَبِيَّةِ عَلَى حَقِيَّةِ دِينِهِ الْقَوِيمِ، وَوُجُوبِ اتِّبَاعِ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، قَفَّى بِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أُصُولِ هَذَا الدِّينِ، وَدَحْضِ شُبُهَاتِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُمْتَرِينَ، وَلَمَّا كَمُلَتْ بِذَلِكَ حُجَجُ السُّورَةِ وَبَيِّنَاتُهَا حَسُنَ أَنْ يُنَبَّهَ هُنَا عَلَى مَكَانَةِ الْقُرْآنِ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْهِدَايَةِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، وَإِعْذَارِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا يَعْمَلُونَ بِهِ أَنَّهُ لَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُذْرٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى ضَلَالِهِمْ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ إِرْسَالِ رَسُولٍ إِذَا هُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ. وَقَدِ افْتُتِحَ هَذَا التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ وَالْإِعْذَارُ بِذِكْرِ مَا يُشْبِهُ الْقُرْآنَ فِي شَرْعِهِ وَمِنْهَاجِهِ مِمَّا اشْتُهِرَ عِنْدَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُوَ كِتَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} سَبَقَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا الْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ لِلتَّذْكِيرِ بِالتَّشَابُهِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْيَهُودَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ اسْمُهُ التَّوْرَاةُ، وَلَهُمْ رَسُولٌ اسْمُهُ مُوسَى، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَشَرِيعَةٍ، وَكَانَ بَعْضُ عُقَلَائِهِمْ يَتَمَنَّى لَوْ يُؤْتَى الْعَرَبُ مِثْلَمَا أُوتِيَ الْيَهُودُ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ لَوْ جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِثْلُ كِتَابِهِمْ لَكَانُوا أَهْدَى مِنْهُمْ وَأَعْظَمَ انْتِفَاعًا؛ لِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنِ امْتِيَازِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالذَّكَاءِ وَالْعَقْلِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ.
وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَدْءِ هَذِهِ الْآيَةِ بِـ {ثُمَّ} الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ مَا عُطِفَ بِهَا عَمَّا عُطِفَ عَلَيْهِ. فَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ عَطْفَ عَلَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} بِحَذْفِ {قُلْ} وَالتَّقْدِيرُ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وَوَصَّاكُمْ بِهِ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا- ثُمَّ قُلْ لَهُمْ وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّنَا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ إِلَخْ. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّهُ عُطِفَ عَلَى {وَصَّاكُمْ} بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْوَصَايَا قَدِيمَةٌ وَصَّى اللهُ بِهَا جَمِيعَ الْأُمَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهَا. وَالتَّقْدِيرُ: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} وَهُوَ أَبْعَدُ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ مِمَّا قَبْلَهُ، وَيُمْكِنُ إِيضَاحُهُ بِأَنَّ مُوسَى أُعْطِيَ الْكِتَابَ- بَعْدَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْوَصَايَا- فِيهِ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ التَّفْصِيلِيَّةَ تَجِيءُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصَايَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ- وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَأْيَ الْإِمَامِ ابْنِ جَرِيرٍ وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا، وَقَالَ: إِنَّ (ثُمَّ) هَاهُنَا إِنَّمَا هِيَ لِعَطْفِ الْخَبَرِ بَعْدَ الْخَبَرِ لَا لِلتَّرْتِيبِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ** ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ

وَهَاهُنَا لَمَّا أَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَنِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} عَطْفٌ بِمَدْحِ التَّوْرَاةِ، وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ كَقَوْلِهِ: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا} [46: 12] وَقَوْلِهِ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [91] وَبَعْدَهَا {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} الْآيَةَ. انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ شَوَاهِدَ أُخْرَى مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ.
فَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْعَطْفِ وَكَوْنِهِ بِـ (ثُمَّ) لَخَّصْنَاهُ بِأَقْرَبِ تَصْوِيرٍ، وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ هَؤُلَاءِ أَقْوَالَهُمْ بِتَصَرُّفٍ، جَعَلَهَا فِي غَايَةِ التَّكَلُّفِ، كَمَا نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ قَوْلَ ابْنِ جَرِيرٍ بِإِيجَازٍ مُخِلٍّ لَا يَتَبَيَّنُ بِهِ مُرَادُهُ، وَقَالَ: إِنَّ فِيهِ نَظَرًا.
وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهُ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ أَنَّ (ثُمَّ) لِعَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ لَا لِعَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِنْشَاءِ كَمَا جَعَلَهَا ابْنُ جَرِيرٍ. وَفِيهِ أَنَّ عَطْفَ الْخَبَرِ بِثُمَّ يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ كَمَا يُرَاعَى فِي عَطْفِ الْإِنْشَاءِ وَعَطْفِ الْمُفْرَدِ، وَلَكِنَّ التَّرْتِيبَ قَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ، وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الذِّكْرِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ شَيْءٍ إِلَى آخَرَ كَمَا قَالُوهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [39: 6] وَالْبَيْتُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِ تَرْتِيبٌ لِتَسَلْسُلِ السِّيَادَةِ فِي بَيْتِ الْمَمْدُوحِ بِطَرِيقِ التَّرَقِّي بِكَوْنِهَا كَانَتْ قَبْلَهُ فِي الْأَبِ ثُمَّ قَبْلَهُ فِي الْجِدِّ. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ جُمْلَةَ {آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} فِعْلِيَّةٌ، وَجُمْلَةَ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} فِيهَا قِرَاءَتَانِ، فَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ عَلَى إِحْدَاهُمَا وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ كَسَرَ هَمْزَةَ إِنَّ، وَإِنْشَائِيَّةٌ عَلَى الْأُخْرَى وَهِيَ قِرَاءَةُ مَنْ فَتَحَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ جَعَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ عَلَيْهَا هُوَ الصَّوَابَ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلنَّظَرِ فِي صِحَّتِهِ وَفَصَاحَتِهِ اللَّائِقَةِ بِالتَّنْزِيلِ وَجَزَمَ بِأَنَّ عَطْفَ الْجُمْلَةِ الْإِنْشَائِيَّةِ عَلَى مِثْلِهَا فِيهِ نَظَرٌ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْبَيَانِ وَالتَّأْوِيلِ؟ وَالْإِنْصَافُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ وَقْفَةٌ لِصَاحِبِ الذَّوْقِ السَّلِيمِ إِلَّا تَقْدِيرُ كَلِمَةِ (قُلْ) وَلَكِنَّ قَرِينَتَهُ ظَاهِرَةٌ. وَأَنَّ أَحْسَنَ مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ هُوَ التَّذْكِيرُ بِمَا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقِرَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْرَاةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّشَابُهِ فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا شَرِيعَةً كَامِلَةً، وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ لَيْسَا كَذَلِكَ، بَلْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِ عِظَاتٌ وَأَمْثَالٌ، وَأَكْثَرُ الثَّانِي ثَنَاءٌ وَمُنَاجَاةٌ.